تقارير وتحقيقات
تقرير يتحدث عن (شريان البصرة) وكيف تحول من معلم جمالي إلى بؤرة تلوث
نشر موقع “اندبندنت عربية”، السبت، تقريرا تحدث فيه عن نهر العشار وكيف تحول من معلم جمالي مثير للإعجاب، إلى بؤرة تلوث تجسد قبح الإهمال.
وذكر التقرير الذي نشر اليوم، (8 آب 2020)، انه “في بداية القرن العشرين بادر النائب في مجلس المبعوثان (البرلمان) العثماني، سليمان فيضي بإحصاء أنهار البصرة الواقعة جنوب العراق، وذكر في كتابه “البصرة العظمى” أن “بساتين البصرة يتخللها 635 نهرا كبيرا رئيسا متصلا بشط العرب، ويتفرع من كل نهر من هذه الأنهر الرئيسة أنهار أخرى عددها بالمئات، بحيث يبلغ مجموعها آلاف الأنهار”. ويعد “نهر العشار” أشهرها وأهمها، وكان يقال “البصرة أولها العشار، وآخرها العشار”، لأن النهر كان يقطع المدينة من شرقها إلى غربها قبل توسعها عمرانيا بكل الاتجاهات.
شريان النقل
وكان نهر العشار يضفي جمالية ساحرة على وجه المدينة، ولطالما أثار اعجاب مستشرقين ورحالة ودبلوماسيين أجانب، منهم قنصل روسيا القيصرية الكسندر أداموف الذي أفاد في كتابه “ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها” الصادر عام 1912 بأن “نهر العشار بالنسبة إلى البصرة هو الشريان الرئيس لحركة البضائع والركاب. وضفاف النهر غاية في الجمال، وهي مغطاة كلها تقريبا ببساتين النخيل”، بينما ذكر عالي بك في كتابه “رحلة إلى العراق العثماني والهند” أن “نهر العشار عامر ببعض البساتين والأبنية، وهو يتجه من أمام إدارة الجمارك وحتى مدينة البصرة إلى الداخل، وتتفرع منه ترع عدة تتجه صوب البساتين. ولا يمنع المد والجزر من ذهاب واياب القوارب التي يطلقون عليها اسم “بلم”، وأرضيتها مفروشة وفوقها مظلة. ولأن أهالي البصرة أصحاب ذوق، فهم يتجولون رجالا ونساء في هذه القوارب أثناء فترة الطقس اللطيف، ويعبرون بها النهر من الليل وحتى الصباح وهم يغنون ويمرحون”.
أصل التسمية
واستمد النهر اسمه من ضريبة العشر، حيث كان الجباة يتواجدون عند مدخله لاستيفاء نسبة 10 في المئة من قيم البضائع التي تحملها السفن والزوارق. ومنذ نشأة المدينة كان النهر يكتسب أهمية قصوى في التجارة والنقل الداخلي، وعلاوة على منافعه الاقتصادية والجمالية والبيئية، كان كثيرون من البصريين يستخدمون مياه العشار للشرب، باستثناء الأثرياء الذين كان يجلب لهم السقاؤون المياه من شط العرب، الأنقى اجمالا، وخلال أيام الصيف كان كثيرون يرتادون النهر للسباحة. ويروي المؤرخ البصري كريم علاوي حميدي في كتابه “البصرة في ذاكرة أهلها” الصادر عام 2016 أن “ذات يوم من أيام صيف عام 1939 كان الناس في بيوتهم لتناول الغداء، وحينذاك سمعنا صياحا شديدا، وعند خروجنا لمعرفة أسباب الصياح، قالوا إن سمكة قرش التهمت يد وساق شاب كان يسبح في نهر العشار”، مبينا أنه “بعد هذه الحادثة لم يجسر أي أحد على السباحة في النهر، ووضعت البلدية لافتات على امتداده كتبت عليها عبارة: الاستحمام بهذا النهر ممنوع”.
ومن الأحداث الغريبة التي جرت في هذا النهر، ما قام به الوالي العثماني فخري باشا، فعندما تولى منصب والي البصرة في عام 1904 بعدما كان قائدا عاما للجيوش العثمانية في العراق، وجد المدينة غارقة في الفوضى والانفلات الأمني، فاستدعى كل مختاري المناطق والقرى، وأمهلهم ساعات لتسليمه قوائم بأسماء عتاة اللصوص والمجرمين، وما أن تلقى القوائم حتى أمر الشرطة بشن حملة أمنية أسفرت عن قتل 21 مطلوبا واعتقال العشرات، ثم أمر بوضع جثث القتلى في أكياسٍ كبيرة تسمى “گواني”، ورميها في نهر العشار، و بقيت الجثث لأيام عدة تأتي وتذهب مع المد والجزر أمام أنظار أهل البصرة الذين أطلقوا على الوالي الجديد لقب “أبو الگواني”، الذي لعله كان فخورا باكتسابه.
مدينة مفقودة
وتحدثت مصادر تاريخية كثيرة عن مدينة قديمة تسمى “الأبلة”، كانت مزدانة بقصور فارهة وأسواق مزدحمة وحدائق غناء، لكن هذه المدينة توالت عليها النكبات والمحن حتى اندثرت، فهي مدينة مفقودة كان لها نهرٌ مذهل يحمل اسمها، وعنه قال الأصمعي إن “جنان الدنيا ثلاث: غوطة دمشق، ونهر بلخ، ونهر الأبلة”، بينما قال الثعالبي إن “نهر الأبلة في البصرة وما حواليه من ميادين النخيل والأترج والنارنج وسائر الأشجار، وفيها من أصناف الزرع وأنواع الخضر ما لا منظر أحسن منه، وعليه القصور المتناظرة ما تحار فيه العيون وتهش له النفوس”.
أما الجغرافي والرحالة ابن حوقل فذكر في كتابه “صورة الأرض” أن “على جانبي نهر الأبلة قصور وبساتين متصلة كأنها بستان واحد قد مدت على خيط، ورصفت بالمجالس الحسنة والمناظر الأنيقة والأبنية الفاخرة والعروش العجيبة والأشجار المثمرة والفواكه اللذيذة والرياحين الغضة ولا تخلو من المتنزهين”.
ومن غرائب نهر الأبلة ما رواه ابن حوقل عن دوامة مائية في ركن النهر تدعى “گرداب الأبلة”، تسببت بغرق سفن عدة، ما اضطُر أصحاب السفن والقوارب إلى تحاشي الملاحة في النهر، إلى أن تم نقل كميات من الحجارة بواسطة قوارب وإلقائها في موضع الدوامة لردم فوهتها، وبذلك تلاشى الخطر وعادت الملاحة الى طبيعتها.
ابن بطوطة
ويبدو أن الرحالة ابن بطوطة عندما جاء إلى البصرة زار الأبلة بعد انحطاطها، وعنها قال “كانت الأبلة مدينة عظيمة يقصدها تجار الهند وفارس، فخربت، وهي الآن قرية بها آثار قصور دالة على عظمتها”. وفي الحاضر تعددت الروايات والآراء بشأن الموقع الدقيق للأبلة، إلا أن أكثر الآراء الحديثة تشير الى أنها تقع على ضفة نهر العشار، وتحديدا في منطقة العشار الحالية، وأن نهر العشار ما هو إلا نهر الأبلة، ومن الأدلة القديمة على ذلك ما ذكره المحدث أبو داود السجستاني (817 – 888 م) في كتاب “سنن أبي داود”، إذ قال إن “محمد بن المثنى حدثنا عن إبراهيم بن صالح، قال: انطلقنا حاجين، فإذا رجل قال لنا: إلى جنبكم قرية يقال لها الأبلة، قلنا: نعم، فقال: من يضمن لي منكم أن يصلي لي في مسجد العشار ركعتين، أو أربعا”، وثمة مسجد تاريخي ما زال قائما الى جانب نهر العشار بالقرب من مدخله، هو جامع المقام.
إهمال بعد اهتمام
على مدى مئات السنين كان النهر يحظى بالعناية والاهتمام باعتباره الشريان الأبهر للمدينة، حتى أن ضفافه قبل توفر الكهرباء كانت تضاء بقناديل زيتية، وبهذا الصدد نشرت جريدة “بصرة” الرسمية في عددها الثاني عام 1889 مقالا انتقاديا، جاء فيه أن “الواسطة الوحيدة التي تربط بلدة البصرة بشط العرب هو نهر العشار، وقد رتبت البلدية على حافته فوانيسا تشعل بالليل ليسهل المرور والعبور على المارة وأصحاب المصالح، ولكن الأسف كل الأسف أن هذه الفوانيس لما ابتعدت عن نظر الفحص أخذت تتنازل في الضياء، فانمحت الفائدة المطلوبة من وجودها…، إن المراكب البحرية والنهرية أغلبها يصل في الليل، فيضطر الناس للمجيء من العشار إلى البصرة في النهر ليلا، فألزم ما يكون أن نعتني في تنوير طريقها ليسهل المرور على الناس، فكيف وأنت ترى الناس يتخبطون في الظلمة المدلهمة خبط عشواء، بل عمياء”.
وتشير صفحات من تاريخ البصرة إلى أن النهر تم تهذيب أعماقه في عهد الوالي العثماني محمد هدايت باشا عام 1878، وأُعيد تعميقه عام 1890 في زمن الوالي عبد الله باشا، وكذلك تم حفره وتنظيفه عام 1904 في زمن الوالي فخري باشا “أبو الگواني”، ومرة أخرى تم تحسين أعماقه وترميم ضفافه عام 1910 بأمر الوالي سليمان نظيف بك، وباعتبار النهر ضرورة حياتية كان تطهيره من الأعمال المبهجة للبصريين. وفي عددها “531”، نشرت جريدة “بصرة” عام 1910 خبراً يفيد بأن “يوم السبت الماضي فُتح نهر العشار الذي كان مسدودا لأجل التطهير، وكان حاضرا آنذاك جمع غفير من الأهالي، والموسيقى البحرية صدحت بنغماتها المطربة، وأخذت القوارب والزوارق تأتي وتذهب في النهر على عادتها السابقة”.
وخلال العهد الملكي تم حفر النهر وتطهيره مرارا وتكرارا، وتم أيضا تسييجه في عهد الملك فيصل الثاني، ولما كان العراق مع بداية الثلاثينات يمر بضائقة اقتصادية ناجمة عن تأثير الكساد العظيم لجأت السلطات إلى السخرة لتنظيف وحفر النهر، فأوكلت المهمة إلى السجناء، وجرت الأعمال تحت حراسة مشددة، وفي عام 1989 تم تنظيف النهر ورصف ضفافه بالحجارة، وبعد ذلك أخذ الإهمال يفتك بالنهر، حيث تفاقمت خلال التسعينات ظاهرة تصريف مياه المجاري في مجرى النهر، وتعمقت حالة الإهمال بعد عام 2003، فهجر الصيادون النهر لخلوه من الأسماك، وصارت مياهه التي كانت تعكس زرقة السماء داكنة لشدة تلوثها، ولم يعد أهل البصرة يرغبون بالتنزه على ضفافه اتقاء للروائح المنبعثة منه.
موت سريري
لم تنجح الحكومات المحلية التي تعاقبت على إدارة البصرة بعد عام 2003 في إنقاذ النهر من المجاري التي تفسد مياهه، وعوضا عن معالجة المشكلة تم إنفاق ملايين الدولارات على أعمال ومشاريع تجميلية وذات جدوى ضئيلة، كوضع نافورة وسط النهر عام 2008، وكانت تقذف المياه الآسنة في الهواء وسط استغراب وانزعاج المارة من بشاعة المنظر، فضلا عن مشروع أنجز مؤخرا بتمويل من وزارة النفط، وتضمن ترميم وتشجير مقتربات وضفاف النهر مع إعادة تسييجه وتشييد جسور جديدة للمشاة، لكن دون إيجاد حل لمشكلة تلوث مياه النهر، وفي محاولة مثيرة للجدل قامت السلطات عام 2013 بنصب مضخات عند رأس النهر من أجل تحريك مياهه الراكدة، لكن هذه المضخات لا تشغل بانتظام.
وأكد أستاذ البيئة والتلوث في جامعة البصرة الدكتور شكري إبراهيم الحسن، أن “مشروع تجميل النهر وتأهيل ضفافه لا فائدة منه، لأن النهر ميت سريريا، ومن يقف الآن على ضفة النهر ليتأمل منظره فهو كمن يقف أمام جثة مجملة بمكياج صارخ، والمشروع الآخر الذي يقضي بوضع مضخات عند مدخل النهر رفع من منسوب المياه، لكنه أبقى مخلفات المجاري مهيمنة في النهر”، مبينا أن “كمية الأوكسجين الذائب في مياه النهر تتراوح ما بين 0 إلى 2 مليغرام لكل لتر، وهي كميةٌ لا تدعم الحياة، فضلا عن وجود تلوث جرثومي خطير نتيجة وجود 1350 منفذا وقناة تصب المجاري والقاذورات في النهر”.
وبحسب مدير مديرية حماية وتحسين البيئة في الجنوب، وليد الموسوي فإن “نهر العشار والأنهار الستة الأخرى التي تتفرع من شط العرب في اتجاه مدينة البصرة تحولت من أيقونة جمالية إلى نقمة على البصرة”، مضيفا أن “على ضفافها توجد مئات النشاطات الملوِثة لمياهها، وتخليص هذه الأنهار من المياه الآسنة ليس صعبا جدا، وربما أسرع الحلول هو مد أنابيب بقطر متر بمحاذاة ضفافها لنقل مياه المجاري إلى محطات المعالجة بدل تصريفها في النهر”.
وهكذا صار نهر العشار بؤرة تلوث تجسد قبح الإهمال، بعد أن كان معلما جماليا مثيرا للإعجاب، وهذا التحول حصل على الرغم من وجود مؤسسات عديدة يفترض أن تتظافر جهودها لإنعاش النهر المحتضر، كمديرية الموارد المائية، ومديرية الماء، ومديرية المجاري، ومديرية البلدية، لكن بعض إداراتها اكتفت بالتفرج على موته البطيء.